زيارة إمــــام

يريدون للزمن أن يعود عنوةٍ للوراء،والزمن بحكم القدر والمنطق لا يمكنه العودة للوراء ولو خطوة. هذا هو حال القائمين على تنسيق وتحديث العادات الاجتماعية في مكان ما تحت ضوء الشمس.
العقل والتعقل يتطلبان القراءة الصادقة الدقيقة لمعطيات الواقع والتصرف بما يليق مع هذه المعطيات ضمن الإطار الأخلاقي و الديني، وليس فرض قوالب مسبقة الصنع لا تحاكي مقتضيات الأحداث.
في قرية نائية ما قامت ثورة من القرارات و الاجتهادات يوم وصل التفلزيون و اخترق حدود تلك القرية لا وبل سكن منازلها. قالت مجموعة كبيرة من الناس أنه أداة شيطانية يجب محاربتها لا وبل شيطان من يمتلكها.
في تلك القرية كان إماماً احترف الدين وغاص في بحوره ، كانت كل تلك المستجدات على الحياة وما تعلق بها من أمور دنيوية ومادية، خارج تفكيره فما كان يهمه هي النفوس البشرية وكيف يمكن أن تتعامل مع جديد الحياة، وكيف يمكن أن يُحسن الناس استعمال الجديد لا إلغاءه منطلقاً من قاعدة عقلانية واعية أن كل جديد سيبصح واقعاً وعليه التعامل مع الواقع و تسخيره لصالح الأخلاق و الخير. فلم يُصدر فرمانا و لا قرارا باسم منصبه الذي يشغله، بل كان حريصا على إظهار ما يمكن فعله من أمور جيدة خيّرة مستغلاً وجود هذا الجديد. هذا الإمام كان يعيش زمنه و يرفض التقوقع ضمن حدود الماضي الذي هو ماضٍ لأهل الماضي.
ولأن الأخلاق لا تُجزأ أبداً، فقد كانت الناس تنظرُ لهذا الإمام على أنه الممثل لها بثوبه الأخلاقي الديني، لأنه كان يفعل أكثر بكثير مما يقول،كان قريبا من كل فرد من أفراد قريته محباً لهم متسامحاً معهم و الأهم من هذا كله أنه كان يتشاور مع كل شرائح القرية قبل أن يضطر ليصدر قرار يعطيه صيغة التمني. فكان أهل القرية متعاونين معه لأبعد الحدود ليس فقط لأنه محترم وحكيم بل لأنه كأي فرد فيهم يشاهد التفلزيون، يشجع اللألعاب الرياضية،حريص كل الحرص على العلم و التعلم،يحضر الأفراح،ويشارك بصدق شديد في المآسي التي تحل بأهل القرية.و لم يخرج أبداً من ثوبه الأخلاقي ولا الديني. وبكلمة مختصرة كان يصون النفوس لا المحسوس. قال ذات يوم لمجموعة من شباب القرية زراهم في مكان تجمعهم " أنتم شباب وداخلكم حماس كبير للحياة فافعلوا ما شئتم شرط أن لا تكذبوا و لاتسيئوا لأنفسكم وللأخرين" فصفق له الجميع. لم يحدد لهم شيء.
هذا إمام أظهر محاسن الدين ولم يُظهر نفسه لهم ممثلا وبديلاً عن الدين. وترك الفضيلة ترفرف حرة فوق رؤوس الجميع.
سمعت الكثير الكثير عن ذلك الإمام الحكيم و عن تلك القرية النائية السعيدة فقررت زيارتها والتعرف على ذلك الإمام الحكيم.و بالفعل وصلت القرية وتوقفت أمام بيت كبير يقف أمامه شيخٌ جميل المظهر،سألته عن بيت الإمام الحكيم فابتسم ودعاني للدخول.دخلت دون تردد لأنه هذا الشيخ الجليل راقني كثيرا ولأني قلت بخلدي لربما يكون الإمام الحكيم، تبادلت معه الحديث فوجدت وعياً كبيراً و فهماً أكبر فكررت لذاتي " أنه الإمام الحكيم". بعد قليل دخلت مجموعة من الناس كان بينهم شباب كثر ومشايخ.استمر الحديث السابق فأربكتني مشاركة المشايخ الذين كانوا يتحدثون بنفس المنطق،فتهت بينهم حين حاولت تحديد الإمام الحكيم. فنهضت واقفاً و بيّنت لهم سبب زيارتي لقريتهم و طلبت منهم إرشادي إلى الإمام. ضحك شاب من الحاضرين ضحكة المنتصر و رد قائلاً: " لن تتعرف عليه بنفسك على الرغم من حضوره بيننا؟"
فكيف لي أن أتعرف إليه ضمن مجموعة حكماء!!! ولكني عرفت أنه لايمكن سجن الحكمة ضمن جسد وعقل إنسان واحد.