القدريـــــة......

إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
هذا البيت الذي قرأته مرات من قبل؛ ولكن هذه المرة لمحت به شيئاً من التناقض مابين مفهمونا للقدر العنيد، وتفكيرنا والإرادة التي يمكن أن تغير وجه القدر.
قال أبو القاسم الشابي : " لابـــــدّ" و هذه العبارة تعني الحتمية واجبة الحدوث ومن جهة أخرى هناك قدر، والقدر حسب ما أفهم هو تلك الكلمة التي يكون لها مفعول السحر حين نُحاصَر بموقفٍ يرتفع فوق قدراتنا المادية والفكرية، فكيف يمكن أن يؤمر حسب قول الشابي؟
كيف يكون هذا والإيمان بالقدر هو العمود الفقري لكافة الأديان السماوية و حتى الأديان التي جاءت من قبلها؟ ما هو مفهوم القدر وكيف نستطيع أن نوازن مابين إيماننا بالقدر والعقل الذي يرفض بشدة فكرة التسليم وبأن قرارتنا هي التي تصنع أقدارنا؟
القدرية كمفهوم هي إيجاد الإرادة الإلهية الأزلية المتعلقة بالأشياء والموجودات - و بما أننا من ضمن هذه الموجودات - فهذا يعني أن الإنسان المُكرّم من قبل الله صانع القدر بعقلٍ يبحث عن أي طريقة لتغيير وجه القدر هو إنسان مُسيّر. أم لعله بما كرّمه الله به من الحرية هو مُخيّر؟


و هنا حضر لذاكرتي شخصان الأول سجين لأنه كان قد أقدم على جرم السرقة وهو يدري ويعي بأن هناك عقوبة لهذا العمل تقوده بالتأكيد للسجن. هذا الشخص كان له حرية القرار فهو هنا مُخيّر. و الثاني طيب مُسالم لا يخترق قانوناً بشرياً ولا إلاهياً و هو سجين أيضاً و كل ذنبه أنه جاور أحد رجال المخابرات الأشداء، والذي لم يرق له شكل هذا المسكين فدبر له ما دبر و انتهى به الأمر إلى السجن . وهذا الأخير مصيره يجعلنا نُسلّم بأن الإنسان مُسيّر و ليس مُخيّراً.
وحين يأتي الموت الرهيب لشخصٍ عجوز تجاوز المئة من عمره؛ أنا أفهم هنا أنه قد تم استهلاك معظم أجزاء جسمه، فلابد لتلك الأجزاء المادية من نهاية. فتتوقف عن العمل تماماً كأية آلة عملت كثيراً و انتهت ، وهنا قد يبدو القدر بعيداً بعض الشيء عن سبب الموت .ولكن حين يخطف حادث سير مثلاً شاباً في ربيع أيامه و كافة أعضاء جسده تعجُ بالقدرة على الحياة يكون هذا هو حكم القدر؟
منذ صغري و أمي تزرع فيِّ فكرة القدر، الذي لا مفر منه و أن الإنسان لن يواجه أمراً حلواً ولا مراً إلا و كان بحكم القدر الإلهي. ( قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا) سورة التوبة. و هنا وجبَ الاعتراف بأن مثل هذا الإيمان يكون مصدر الراحة في الظروف التي تعلو فوق قدراتي.
ولكن----- مادامت كل الأمور والأحداث مُقدرة سلفاً ونحن مكتوب علينا أن نقوم بأعمالنا هذه.... فلماذا نحن مقبلون على الحساب إذاً؟
أم أن القدرية تتعلق بالموجودات المادية غير العاقلة، والتي تخضع بدورها لنظام كوني محسوم سلفاً و محسوب بكل دقة. هذه الموجودات غير العاقلة هي أدوات تنفذ حكم القدر؟
و لكن--- حين قال الشابي هذا الشعر، ربما كان يريد لنا أن لا نصدق أبداً بأن رضوخنا لأمر واقع ليس قدرنا المحتوم. وهل وجب أن يقول أبو القاسم هذا البيت ليسبّب لي كل هذا الصداع الرهيب؟!!!!
أم أن قدر الشابي أن يكتب هو،وعقلي أنا الذي سبب الصداع؟!!!
طبعاً هذا ليس بتعريف للقدرية أو حكم عليها، بل مجرد تساؤلات فيصلية عبقرية متأخرة كالعادة.
" (...)