الرحمـــة يرحمكم اللـــــه...!!!!!

"لم يكن أبو سلمان أكثر حظاً من البقية أمثاله، فقد عاش حياةً تعجّ بالشقاء والتعب، ولكن الذي كان يميّزه عن الآخرين هو جلادته، وصبره المنقطع النظير وذلك الوجه الذي لا تفارقه الابتسامة بالرغم من كل ذاك الشقاء. لم تستطع سنوات عمره الخمس والستون النيل من ابتسامته تلك. كنت أحس أن أبا سلمان قد وقّع عقداً أبدياً مع رضا النفس. فها هو يطلق من عباراتِ الحمد والشكر لله أكثر بكثير من المُختصين بعلوم الدين.
أبو سلمان دائم التواجد في جميع المناسبات الاجتماعية، ولا يفوته واجب كما يُقال، متعاطف مع الكبير ورحوم مع الصغير. ولم أسمع يوماً أنه اختلف أو تشاجر مع أحد باستثناء حادثة واحدة يوم صاح بأحد الأعيان من القرية حين رفض المنطق الذي يتكلم به ذلك الشخص، وبالطبع تحزّبت الناس وانقسمت مجموعات حسب الفرز العائلي وبما تتقضيه المصالح. فما كان من أبي سلمان -وبعد فترة وجيزة- إلا أن تقدّم من ذلك الشخص وقدّم له اعتذار على ذنبٍ لم يقترفه. ولا أدري لما فعل هذا و كيف جار على نفسه؟


أما نحن -معشـــــــــــر الشباب- فكانت له معزة كبيرة بقلوبنا، لأننا كنا نفرح كثيراً عندما يجلس معنا أو حين يتوقف أثناء عودته من عمله ليلقي لنا بتعليق خفيف الدم يرسم البسمة على وجوهنا ويتابع سيره ونحن نبقى نردّد عبارته التي قالها لنا كي نضحك، لكنه لم يخرج يوماً عن إطار الأخلاق بالرغم من كثرة مزاحه وتعليقاته خفيفة الظل.
حدث ذات يوم أن أحد الأصدقاء - المتيم بحب إحداهنّ – التحق بنا متأخراً حيث نجتمع ليقول:" أتعلمون أين كنت؟" قلنا و من أين لنا أن نعلم؟ " كنت عند أبي سلمان" فقلت: " يا حظك فقد شبعت ضحكاً إذاً" التزم صديقنا الصمت ولم يجب، ثم تابع كالعادة يحدثنا عن حبه وما استجد من تطورات. ونحن قد ملّلنا تلك الأسطوانة وحتى أننا مللّنا قصائد الغرام ..... لم نكن نُعيره الكثير من الاهتمام. وفجأة نهض وصاح بنا وعلى ملامحه بدت علامات الجدّية المبالغ فيها " والله، إنّ أبا سلمان أفضل منكم جميعاً فقد استمع لي أكثر منكم، ونصحني و تعاطف معي أكثر منكم يا....... أصدقاء". أجل فقد كان هذا الرجل قريباً من الجميع صغيراً وكبيراً، شاباً وكهلاً.
كان لأبي سلمان أسرة مؤلفة من أربع أفراد ثلاث بنات وصبي في ربيعه الثامن عشر.والغريب أن الولد لم يكن اسمه سلمان بل (جلال) ولكن هذا هو الاسم الذي تعود أهل القرية مناداة أبا سلمان به. كنا نلتقي جلال الذي يصغُرنا بأربع أعوام من حين للآخر و أتذكر أني سألته يوماً بعد حديث مطوّل عن الفقر والحاجة ،" هل تتمنى لو كنت ابن فلان لترتاح من كل هذا الفقر؟" فجاءت إجابتة حادةٌ وجازمة:" والله العظيم كل أموال الدنيا لا تُغني عن أبي سلمان" لم يقل أبي . فعرفتُ من هذه الإجابة كم هو حجم الصداقة التي تجمع مابين الأب وابنه.!!!!!
مرّت الشهور وكنا نحن نسافرإلى الجامعة ونعود ولاجديد، سوى الصراع المستمر للبقاء. انتهت الدراسة في الجامعة وعدنا إلى البلد، أتذكر أنه بعد عودتنا بحوالي أسبوع تقريباً وفي الصباح الباكر سمعت أبي يقول بأسفٍ شديد :" الله يرحمك يا أبا سلمان الله يرحمك " وبأقل من ثواني استرجعت صور أبا سلمان السابقة وبكيت. لم أبكِ حزناً على أولاده، بل بكيِت فقده من قريتنا. وبعد ساعة تقريباً توجهنا للموقف العام حيث يعُقد مجلس العزاء وهناك لمحت في وجوه الحاضرين حزناً عفوياً لا تكليف فيه. تقدّم المشايخ للصلاة على الجنازة وكالعادة تقدّم جمع من الكبار وأدّوا الشهادة التي ترفع الرأس كما يقال عن مناقب الفقيد قبل بدء الصلاة، وما أن انتهوا من الشهادة التي تهدف لاستدرار عطف المشايخ الذين تابعوا بدورهم الطقوس المعتادة. وهكذا كانت رحلة الحياة التي انتهت اليوم بالنسبة لأبي سلمان المرحوم.
رافقته مع الآخرين لمثواه الأخير، وبعد عودتي إلى البيت بادرت أبي بسؤال – وبنبرة فيها غضب ونقمة – لماذا كان المشايخ أصحاب النفوذ يتأففون عندما كان يردد الحضور" رحمك الله يا أبا سلمان يا أبي؟!!!!! فقد كان هذا الرجل طيباً، كريماً، مسالماً وووو..... وأنت تعلم ذلك!!!!!
جاء الجواب الصاعق بالنسبة لي. فقد قال أبي :" لأنه لم يستلم دينه" هذا الجواب الذي لم يقنع أبسط وأصغر الخلايا في دماغي.
وما زاد في غضبي وجنوني –يا سادة- أن أبا سلمان كان الرجل الوحيد في القرية الذي يتقاطر إلى بيته المشايخ بشكل يومي لأنه المحترف الوحيد بلّف العمائم( اللفات).