عِنّا

... إلا إذا

"عِنّا" وأخواتها


"نحنا ما عِنّا بنات تتوظف بشهادتها، عِنّا البنت بتدلل، كل شي بيجي لخدمتها": لم يكن ينقصنا، في هذه الثقافة الراكضة الى الوراء بسرعة البرق، ووسط كومة الأغنيات الهابطة، الفارغة من أي مضمون، سوى أغنية تدعو النساء إلى الاهتمام حصراً بالمطبخ، والتخلي عن طموحاتهنّ في مجالات العمل والحياة بحجة "تدليلهن". و"من التدليل ما قتل"، ينبغي أن يقول المثل. فقد "فلقتمونا" بدلالكم المزعوم أيها السادة. "يا حبيبتي يا نور عيني أنا لستُ ضدّ أن تعملي لكني لا أريدكِ أن تتبهدلي وتتعبي: هذا كل ما في الأمر". لو كانت أسطورة بينوكيو حقيقية، لتعارك الرجال بالأنوف بدل السيوف. لا بأس عليكم يا "أنوار أعيننا"، دعونا "نتمرمط" قليلاً نحن النساء في معترك هذه الحياة التي ما زلتم تستولون عليها طولاً وعرضاً - وإن بدون تعميم - وتتركون لنا منها فسحة الجمال، والإثارة، والنعومة، والاغراء: لست بمعترضة على الجمال والاثارة والنعومة والاغراء وأخواتها، بل كلها حسن (وإن كانت ناقصة، بل ناقصة جدا) لو لم تكن غايتها شبه الوحيدة ارضاء أعينكم، وأيديكم، وشهياتكم. مختصر مفيد: أنتم تكدحون لأجلنا، ونحن نتجمّل لأجلكم. أنتم تذهبون الى الصيد، ونحن ننجب الأطفال. أنتم تشعلون النار، ونحن نطبخ الطريدة. أليس كذلك؟!
أكاد لا أصدق أننا ما زلنا في حاجة الى تكرار البديهي، لكن اسمعوا هذا: نحن، واعجباه، قادرات على وضع طلاء الأظفار وتولّي وظيفة مهمّة في آن واحد. تالياً، ليس هناك كلمة أخرى تصف هراء هذه الأغنية: إنها إهانة. إهانة بحقّ. ما يضاعف الاهانة أنها نالت، على ما تقول الاستطلاعات، "إعجاباً واسع النطاق في أوساط الرجال اللبنانيين": رجال يكفي معظمهم، على ما يبدو، أن تحكّ ذكوريتهم وغرائزهم كلماتٌ بهذا المستوى لكي ينكشف جلدهم "المودرن" والتقدمي الوهمي، وتظهر الطبقة الصدئة التي تحته: طبقة تبرهن انهم لا يزالون ينتمون الى زمن الكهف. الأدهى ان كاتب كلمات الأغنية شاب في مقتبل العمر، وهو ابن المغنّي المخضرم الذي أتحفنا صوته "الجبلي" بها على مرّ الأسابيع الفائتة.
ترى عن أي "عِنّا" يتحدث الإسكندرَين، المغنّي الكريم وكاتب أغنيته؟ لأن الـ"عِنّا"، كما أراه أنا وأريده، وكما يراه ويريده كثر وكثيرات مثلي، مجتمع يتوق، في أقل تقدير، الى التخلص من قبليته ورجعيته وذكوريته التافهة والمهينة (المهينة في حق الرجل خصوصاً). والـ"عِنّا"، كما أراه وأريده، وكما يراه ويريده كثر وكثيرات مثلي، مجتمع يعمل، في أقل تقدير، على أن يصبح مدنياً، علمانياً، إنسانوياً، حرّاً؛ مجتمع يحترم حقوق الانسان عموماً، وحقوق المرأة أولا وخصوصاً. والـ"عِنّا"، كما أراه وأريده، وكما يراه ويريده كثر وكثيرات مثلي، مجتمع يشمئز، في أقل تقدير، من علامات التخلف والبربرية، ويرفض التمييز بين البشر، ويقرّ بحاجته الى العنصر النسائي شريكا فعليا في ميادين الدراسة والعمل والاقتصاد والسياسة ومراكز القرار كافة.
فلينظر السيد محمد اسكندر جيدا، هو وابنه، والمطبّلون لهما، من حولهما. فليتأملوا ملياً في ذلك الـ"عِنّا" الذي يتغنّون به. هل ثمة حقاً امرأة تحترم كيانها وأنوثتها، في هذا القرن الحادي والعشرين، وتتوق في الان نفسه الى أن تُجرجَر من شعرها، لا بل تعتقد أن الهدف من وجودها على هذه الأرض هو أن تعدّ لسي السيّد طبخة "محشي ملفوف"؟
أعلم أن هذا الصنف من النساء لم يزل موجوداً، للأسف. بقوة التخويف. بقوة غسل الدماغ. بقوة انعدام الوعي. بقوة الجهل القسري. بقوة التعتيم البطريركي. الخ.
لكنني، معي كثر وكثيرات مثلي، نفعل ما في وسعنا لكي ينتصر هذا الصنف على نفسه. لأنه، يا سيد محمد، "نحنا ما عِنّا بنات بتسمع هيك أغاني".


• • •

رفع طلاب أوكرانيون أخيرا دعوى ضد رئيس وزراء البلاد نيكولاي آزاروف للمطالبة بالنظر في مشروعية توليه ذلك المنصب من دون إتقانه لغة البلاد الرسمية الأوكرانية، واستخدامه الدائم للروسية على رغم تعهده بتعلم الأوكرانية واستخدامها عند توليه المنصب قبل أسابيع. واستند الطلاب في إحدى الجامعات في العاصمة الأوكرانية في دعواهم إلى المادة العاشرة من القانون الأوكراني، التي تحتم إتقان الأوكرانية من جانب جميع المسؤولين في المناصب الحكومية.
عندما قرأت هذا الخبر المضحك المبكي، لم املك سوى أن أفكّر في المرّات التي يقشعر خلالها بدني عندما اسمع خطاباً لزعيم أو لمسؤول بلغتنا العربية المسكينة، بسبب الأخطاء الفادحة التي يرتكبها غالبية هؤلاء.
طبعاً، ليست "الفصاحة" المشكلة الوحيدة لطبقتنا السياسية، ولا هي المشكلة الأكثر فداحة. لكن الكذب البليغ يظل أقل ضررا على الأذن من الكذب الركيك، ألا توافقونني الرأي؟ لا، ليس بالإعراب وحده يعيش الانسان، ولكنْ قليلٌ منه ينعش قلب المظلوم، والمقهور، والمسروق، والمغدور، وهلمّ.
"أكل الولدُ التفاحةَ" أيها السيدات والسادة.
أو، لأقلها بلغتكم كي تصل الرسالة: "أكل المسؤولُ البلادَ".

جمانة حداد

منقول من جريدة النهار