الأستاذ عماد أبو لطيف ...وذكرى مهاجر...

في تلك القرية.. التي ليتها بقيت نائية...في أواخر تمانينات القرن المنصرم ......

ذات يوم أشرقت شمس الصباح كعادتها منذ الأزل لتطل على هذه القرية فتحاكي أطلال الرومان وتدب الحياة في بيوت أصحابها الجدد التي انتشرت بشكلٍ عشوائي غير متناسق فوق تلك الرابية التي لم ينل منها الزمن رغم تعاقب الأجيال وتقادم العهد

استيقظت جميع مخلوقاتها من بشرٍ وحيوان تتلهف الخروج من منازلها وحضائرها بعد مكوث طويل فرضه تساقط الثلوج الذي استمر لعدة أيام متتاليه فأغلقت جميع الطرق الؤديه ..بل أُغلقت الأبواب والنوافذ والمزاريب ومواسير المياه وانقطعت الكهرباء ..وأصاب الملل الكبير والصغير
فالاب ينتهر أبنائه عند كل حركه والنسوة يتشاجرن مع أزواجهن لأتفه الأسباب والزائر ضيف ثقيل الظل كل شئ ينبئك بأن الجو مشحون فيجب توخي الحذر في كل تصرف
أما اليوم فالأغنام يتعالى ثغائها والأبقار خوارها والحمير تنهق والديكه تصيح وكأن اسرافيل استيقظ هذا الصباح لينفخ بوقه معلناً النهاية الكبرى
الجميع يريد الخروج بعد هذا الملل والدجن الذي استمر قرابة الإسبوع فقد منَّ الله بالأمس على أهل هذه القرية وقُدر لأحد الموظفين أن يتذكر قريتهم النائيه فأرسل جرافة استطاع اغتنامها الثوار في أوائل أيام الثورة السورية الكبرى وبدورها اغتنمتها الخدمات الفنيه( وما زالت تعمل)... وبعد عناء طويل وصلت في مساء الأمس إلى هذه القريه لكنها تعطلت في منتصف القريه على جسرها المتهالك الذي شوه جمال واديها العتيق وأعلنت احتجاجها على سائقها وأخذت تلعن حظها المتعثر الذي أودى بها إلى هذه البلاد التي لا ترحم شيخوختها فلو تسنى لها البقاء في فرنسا لكانت الأن تقبع في أحدى متاحفها أو في إحدى دور العجزه على شاطئ المتوسط

قبل الساعة السابعة كان الجميع في الخارج النساء تحمل (مقشاتها ) وتزيل الثلوج عن النوافذ

الرجال كلٍ يحمل (رفشه) ويباشر يفتح ممراً يؤدي إلى الطريق ...وبنفس الوقت كل يريد أن يفتح أيضاً مدخل جاره قبل أن يسبقه جاره لنيل هذا الناموس ...يبدأ بشق طريق وسط أكوام الثلوج مبتدأً ذلك من أقرب طريق أو من أول درجة من أدراج البيت وهو (يحدي)( يالله اليوم ويا كافي )أو (ربنا لا تخيب سعدنا)
أو (طب الفزيع ونادى يا اشبال العرب) وغيره وغيره من الأهازيج التي تبعث الدفء والحماس في النفوس والقلوب والأجسام فيتلقاه جاره صائحاً ( الله حيووووووو) ويدور الحوار الروتيني المعتاد

صبحكن بالخير ...

صبحكم بألف خير ...

اشلونكم طيبين انشالله ما صار عليكم شي بهالعيانه؟

غير الخير ....

أنتوا اشلونكن اشلون ولادكم اشلون طرشاتكن وحلالتكمن

الحمدالله الجميع بخير ...

تفضل شرّف .... ياعيب الشوم منك عاطول بتسبقنا .....

ولو يا زلمي نحنا جيران وأهل وهذا واجبنا ....

طيب تفضل فوت اشراب قهوي و( الكشكات عالنار) .....

الله يديمك تركت (العيلي ) كمان عابتطبخ كشك ....

وبدي طيلع هالحلالات لا الراعي خليهن يتفضو شوي ........

هذا شأن الرجال أما طلاب المدارس فيرتدون ملابس المدرسه ومنهم من يذهب متفائلاً مشتاقاً لمدرسته ومعلميه بالفعل ومنهم من يذهب متثاقلاً كارهاً لأعناً الساعة التي اغتنم الثوار فيها تلك الجرافة ...التي فتحت الطريق الذي
لم يترك حجة للمدرسين للتغيب عن المدرسه التي كان ينجح طلابها بقدرة قادر فلا يتجاوز الدوام الفعلي فيها الأربعة أشهر على الأكثر بسب نأيها وجوها ...كيف لا وهي التي تبعد عن مركز المدينة عشرين كيلو متر وهي على تماس مباشر تشترك حدودها وحدود المدينه (والقعاقير ) واضحه وضوح الشمس ترسم الحدود من (مرجة فهد أبو عسلي جنوباً حتى الخشعات الحُمر ) شمالاً لكن بالرغم من هذا فالطريق إليها تمتد لمسافة تزيد عن الخمس وأربعين كيلو متر عبر طريق يمر بتسعة قرى قبل الولوج إليها!! رغم أنها مركز ناحية (مهم)
من أولئك الطلاب كان طلاب الصف العاشر الذين عجزت إدارة المدرسة ومديرية التربية بل الوزارة عن تأمين مدرس للغة الإنكليزيه فكلما جيئ بمدرس لا تطول إقامته إلا فترة (تدبير )( واسطه) أو( رشوه) للرحيل عن هذه المدرسه التي يتعلم بها أبناء عشرة قرى مجاوره لهذه القريه ودائماً السبب المعلن هو قلة أو عدم توافر وسائل النقل والجو البارد الذي يجمّد (الميكياج) الغير متناسق على وجوه المدرسات و(الجل) الرخيص على شعور المدرسين الشباب الذين مازالو يدرسون في الجماعه ولم يحضوا بشهادة التخرج حتى الأن

إذاً دخل طلاب الصف العاشر قاعة الصف فالتفوا حول المدفئه المتهالكه وأخذو يقهقهون ويمرحون غير عابئين بما كان وما سيكون ومدرس اللغة الإنكليزيه الذي طرق مسامعهم قدومه لغرفة الإداره لن تطول إقامته كسلفه الغير صالح من المدرسين ...فاتفق الجميع على( تطفيشه ) قبل أن يطفش من كيفه

وماهي إلا دقائق حتى قدم هذا المدرس فطرق الباب المفتوح عدة طرقات فاشرئبت إليه الأعناق والأبصار لكن دون أدنى اهتمام فزاد الطرقات ....وجعل منها إيقاعاً له رتم موسيقي واضح ...عله يزيد انتباه هؤلاء الطلبه المراهقين الذين اعتدوّا بأنفسهم وتغلغل الشباب وعنفوانه داخل أوردتهم وشراينهم يرون الرجوله بمخالفة المعتاد والخروج عن القوانين المألوفة ....عند تغير نغمة الطرقات دخل القسم الكبير من الطلاب إلى مقاعدهم بعضهم استحياء ومنهم من كان في نظر البعض جباناً لا يقوى معاندة الأساتذه ويستسلم لرغباتهم ( من أول كف)

هنا ..دخل المدرس وأغلق الباب ورائه بكل هدوء ووقف صامتاً يتفرس الوجوه وجهاً وجها
دون أن ينطق كلمة واحدة ...فما هي إلا دقيقه وبعض الدقيقه حتى دخل الجميع إلى مقاعدهم تاركين مدفئة الصف تهدر من الأعلى وتخر من الأسفل ......

كان شاباً وقوراً أطلق لحية شقراء مشذبه مهذبه يرتدي قميصاً أسود وبنطالاً أسود خصره عالٍ يكاد يصل أعلى خاصرتيه ولفحة سوداء( وصباطاً)أسود أيضاً
شعره أشقر وعينيه زرقاوين ولحيته شقراء يبدو كسائح مما تعودنا رؤيتهم في المعبد الروماني

نعم إنه مختلف شكلاً عما عهدنا ....

وبعد أن عم الصمت الكئيب أنحاء تلك الحجرة قال : صباح الخير يا شباب وياصبايا....

ردَّ البعض التحيه والبعض الأخر لم يرد

قال اتفضلوا .....ارتاحوا ....

جلس البعض بسرعة البرق والبعض الأخر جلس متثاقلاً مزدرياً ناقماً وقل ما شئت من أوصاف التذمر

قال الأستاذ : أنا طبعاً مدرس الإنكليزي ....واليوم ما راح أعطيكن درس إنكليزي شو رايكن ؟

أحدهم قال : والله بتعمل معروف بلا ما تكلف حالك .....والأخر قال موافقين ..... والبعض أدار وجهه إلى زميله وأخذ يهمس بأذنه ......ومن (الزمره ) الغربيه قالت إحداهن وكانت ( شاطره ) ليش يا الله ما صدقنا يجينا مدرس ........!!!

وأضاف أخر: عرفنا عا حضرتك استاذ ........

قال يا شباب : أنا عماد أبو لطيف من سكان السويداء حي النجمه

قال أحدهم أنا معين حمايل من الغيضه بحد الوادي

قال الأخر متهكماً أنا من العجيلات حي المغاير.......

وقال أخر أنا من المشنف حي المطحنه فتعالت الضحكا ت والنكات وعمت الفوضى

فهم طلاب ملّوا تعاقب المدرسين الغير جادين وبما أنه ليس هناك من درس فكل واحد (بدو يشوف حالو ) بالتهكم على هذا المدرس الذي لا يعرف عنه شئ

وكان من خصائص هذه( الشعبه ) أو الفصل أن يتكلموا مع المدرسين القادمين من المدينه بمصطلحات قرويه بحته لا يعرفها إلا أبناء القرى وتكون معجمه بالنسبه لأبناء المدينه وهذه المصطلحات تخص الفلاحين وأدواتهم وطريقة عيشهم ولا للمدنيين منها نصب
فقال أحدهم : أستاذ بقديش كيلو الطبابيع عندكم ؟ ........فتعالت الضحكات والقهقهات وممن ضحك ضحكاً عاليا الأستاذ عماد نفسه !!
لكنه أجابه سريعاً : والله حسب الطبوع .....إذا كان قدراسك هيك كبير ومن جوا فاضي مالو سعر.. خصوصاً إذا كان عليه (مخطه) واستدرك قائلاً : (حرفيا) يا شباب سديت بالقرايّه عالطرشات قبل ما اجي لاهون وأمنّت على المقبايه وودعت الكدانه والعود عند جيراننا وجيت لا عندكم .........شو فو يا أخوان : نحنا كلنا شباب صحيح أنا أكبر منكم شويه بس أنا شب مثلكم وبعرف ضروفكم وبعرف هاي المصطلحات أكثر منكم وبعرف كل واحد شو بيفكر منكم ولا تفكروا انو بتمرق علي كلمي أو إشاره أو غمزي أو لمزي وبعرف كل أسلليب الشيطنه ومجربها وما رق عليّ أكثر مما تتصوروا لذلك لا تحالو ! وخلينا نكون أصدقاء مش علاقة مدرس مع طلاب بل علاقة أخوه مع أخوهم الكبير الي بيريد إلهم الخير وبالنهايه إنتو الي ممكن تربحو و أنتو بتخسرو وأنا بدي ياكم تنجحو وتستفيدو ولما بتكونوا مالين مارح ناخذ درس ولما بيكون عندكم استعداد للدرس رح ناخذ درس ونفهمو ورح ابدأ معكن من الأول ووعد مني أن أعوضلكم الفتره السابقه فرجاء رجاء وقت الجد جد.. ووقت المزح مزح ..... ووقت الطبابيع بتطبعوا...........
انفجرت القاعه ضحكاً من جديد لكنه مختلفاً هذه المره ضحكاً ممزوجاً بالرضى والقبول والإعجاب بهذه الشخصية المختلفه
وساد الهدوء سريعاً مترقبين ما يتبع من حديث فأشار أن نبدأ بالتعريف على أنفسنا بشكل منتظم :

فأخذ كل ٍ ينهض ويعرف عن اسمه ثم يجلس سريعاً إلى أن انتهى هذا المشهد عند آخر طالبه في الزمرة الغربية
قال عندها: تشرفت بمعرفة الجميع وأنا كما أسلفت اعتبروني أخوكم بكل ما تعني كلمة الأخوّة

ياشباب الإدارات أغلبها فاشلة والمدرسين أكثرهم فاشلين نتيجة فشل الإدارات ...هذا ما ينعكس بالتالي على الطلاب فيصبحون فاشلين أيضاً لكننا سنتحدى هذا الفشل ونجعل منه نجاح ووو........وأخذ يشحن نفوس الطلاب من خلال زرع الثقة بأنفسهم مرة ومن خلال انتقاده اللاذع للإدارات التعليمية والمجتمع بشكلٍ عام مرة أخرى

تكلم بشكل فلسفي يبحث في أعماق النفوس عن حقائق كامنة في أغوارها فيوقظها لتطفو إلى السطح فتتجلى الحقيقة أمامها بشكل لا يترك مجال للشك بكونها هي الحقيقة

دخل عنوة إلى كل قلب من قلوب أولئك الشباب المراهقين فأحكم قبضته على كل تلك القلوب كأنه ساحراً ماهراً يذهل العقول بفنون سحره

تكلم بالسياسة بأسلوب غير خطابي ......تكلم عن العلم بأسلوب ......غير روتيني ......تكلم عن كل شئ بأسلوب مختلف كل الإختلاف عما عهدنا

الجميع يسمع ويصغي السمع .....الكل مشدود نحو هذا الساحر الذي يدخل بين مقاعد الطلبة مرة ويعود مسرعاً للخلف دون أن ينظر ورائه ويتمشى أمام المقاعد تارة أخرى كأنه يرتاد مسرحاً فيفتعل حركات تعبر عن مشاعره وتخدم نص مسرحيته ويرضي جمهوره ويجعل مخرج هذه المسرحية يعجب بنفسه لأنه أحسن الإختيار
لم يخرج من تلك القاعة إلا وكان الجميع أصدقائه وهو صديق للجميع .....كأن الجميع يعرفه منذ سنوات لا منذ دقائق .....امتلك العقول قبل أن يمتلك القلوب .......هكذا كان ......
عندما دُق الجرس وأُعلن انتهاء الوقت أصاب الجميع الإحباط كطفلٍ يستمع لحكاية خيالية من جدته الهرمة فيغلبها النعاس دون أن تكمل فصول حكايتها فيضطر هذا الطفل أن يتخيل ما عساها تكون النهاية فيغلبه النعاس لتكتمل فصولها في أحلامه البريئة


وهكذا كان الجميع بانتظار الدرس القادم الذي كان مراجعة لمبادئ الإنكليزيه والترغيب بهذه اللغة التي أصبحت لغة النجاح في شتى مجالات الحياة وفي كل درس كانت تتكشف هذه الشخصية الفذة وتبوح عن مكنونات نفسها الشريفة حقاً ومواهب هذا الأستاذ الكثيرة والمتعددة من فنٍ وشعرٍ وخيال ٍ وطموح

حُببت مادة اللغة الإنكليزية لطلاب كل الفصول التي كان مكلفاً بتدريسها وحُببت هذه الشخصية للجميع وكانت بصمة ثابة ما استطاعت تغيرها السنون ........ فلم يكن مدرس الإنكليزيه فقط بل كان يدرّس مواد الحق والذوق ومكامن الجمال ويكشف مواطن الظلم والخبث والقهر ...........

إلى الأن وعماد أبو لطيف يزداد تألقاً كل يوم لكنني أكاد أجزم أنه تواجد في المكان الخطأ والزمن الخطأ

في النهايه كُتبت خاطرتي بوقتٍ قصير استغرق مدة كتابتها فقط فلا أدري إن كنت قد وفيت أستاذي ومعلمي جزء يسير من حقه عليّ

صباح الخير والحب أخي الغالي .. شبلي

بداية أهلاً وسهلاً بطلتك الغالية التي اشتقناها جداً

ومنور المنتدى بهذه العودة وبهذا الموضوع الرائع

عن انسان ليس هو عضو بهذا المنتدى فحسب

بل هو عضو على المقاعد الآولى في قلوبنا جميع ,اعتقد دون استثناء

وكما اتكم احببتوه تلاميذ لآسلوبه الجميل الراقي الرقيق

نحن هنا بهذا المنتدى وبمنتديات اخرى سبقت أحببناه لنفس السبب

لرقة تعامله وجمال تعبيره وحسن اسلوبه

الظاهر المعدن الثمين كلما مر عليه الزمن كلما كبرت قيمته

وهذا هو اخينا المحترم الغالي السيد حنظلة.. عماد ابو لطيف

كان وما زال صاحب الفكر الحر والضمير الصاحي والمدرس صاحب الرسالة

فلهذا اقدم له من اعماق القلب كل تحية ومحبة بأسمي وأسم ادارة واعضاء هذا المنتدى

وفخراً كبيراً أن يكون بيننا قلماً شفافاً مبدعاً وقلب نابض بالحب والخير

تحياتي لك أخي الغالي شبلي وتحياتي لأخينا الغالي عماد ومرحب بكم بهذا المكنتدى الذي يشرق نور بتواجدكما

مع كل الحب

أسعد الله أوقاتك أختي أم شادي
شكراً لاهتمامك ودائما ردودك لطيفه وعبقه

الأستاذ عماد هو الرجل الحر والضمير المستيقظ دائماً والفنان الجميل الذي يأنف الرخص

وهو الشاعر الرقيق وقبل كل شئ هو الإنسان الذواق وعندما يكون الإنسان ذواقاً فهو جميل بطبعه وشكله

وكل ما يفعله جميل


لكِ كل الود أم شادي

شبلي

أستاذي الفذ عماد:

الذاكره لا تنسى الجمال وأنت الجميل

أحمل لك بين شغاف القلب وداً


استوطنت أيامك منزلاً في عمق الذكريات

لن تستطيع السنون إخراجك منه مهما تقادمت

الود كله لك


شبلي

أخي الكريم : ماكانت إلا خاطره بسيطه لملمتها من زوايا الذاكره التي يلهبها رؤية هذا الاسم الكريم

أما الأستاذ عماد فهو كريم المزايا وكل الخصال الحميده اجتمعت في شخصه أما مواهبه: فهي كثيرة وانجازاته أكثر

ربما يكفيني القول بأنه (إنسان) بكل ما تعني إنسانية (جبران) و (فنان ) بكل مايعنيه الفن مضموناً


لك كل تحياتي وودي وشكري

شبلي